فصل: تفسير الآيات (10- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (2- 5):

{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}
{إِن يَثْقَفُوكُمْ} أيْ إنْ يظفُرُوا بكُم {يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء} أي يُظهروا ما في قلوبِهِم منَ العداوةِ ويرتبُوا علَيها أحكامَهَا {وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء} بمَا يسُوؤكم من القتلِ والأسرِ والشتمِ {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} أي تمنَّوا ارتدادكُم، وصيغةُ الماضِي للإيذانِ بتحققِ ودادتِهِم قبل أن يثقفُوهُم أيضاً {لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم} قراباتُكم {وَلاَ أولادكم} الذين توالونَ المشركينَ لأجلِهِم وتتقربُونَ إليهِم محاماةً عليهِم {يَوْمُ القيامة} بجلبِ نفعٍ أو دفعِ ضُرَ {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} استئنافٌ لبيانَ عدمِ نفعِ الأرحامِ والأولادِ يومئذٍ أي يفرق الله بينكم بما اعتراكُم من الهولِ الموجبِ لفرارِ كلِّ منكُم من الآخرِ حسبما نطَقَ بهِ قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} الآيةَ فما لكُم ترفضونَ حقَّ الله تعالى لمراعاةِ حقِّ منْ هَذا شأنُهُ وقرئ: {يُفْصَل} و{يفصَّل} مبنياً للمفعولِ و{يفصِل} و{يُفَصِّل} مبنياً للفاعلِ وهو الله تعالى و{نفصِل} و{نفصِّل} بالنون {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم بهِ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أيْ خصلةٌ حميدةٌ حقيقةٌ بأنْ يُؤتَسَى ويُقْتَدى بهَا وقولُهُ تعالَى: {فِى إبراهيم والذين مَعَهُ} أي منْ أصحابِهِ المؤمنينَ صفةٌ ثانيةٌ لأسوةٌ أو خبرٌ لكانَ ولكُم للبيانِ أو حالٌ من المستكنِّ في حسنةٌ أو صلةٌ لها لا لأسوةٌ عندَ من لا يجوِّزُ العملَ بعدَ الوصفِ {إِذْ قَالُواْ} ظرفٌ لخبرِ كَان {لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ} جمعُ بريءٍ كظريفٍ وظرفاءَ وقرئ: {بِراءٌ} كظِرافٍ و{بُراءٍ} كرُخالٍ و{بَرَاءٌ} على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الأصنامِ {كَفَرْنَا بِكُمْ} أي بدينِكُم أو بمعبودِكُم أو بِكُم وبهِ فلا نعتدُّ بشأنِكُم وبآلِهَتِكُم {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً} أيْ هَذا دأبُنَا معكُم لا نتركُهُ {حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ} وتتركُوا ما أنتُمْ عليهِ من الشركِ فتنقلبُ العداوةُ حينئذٍ ولايةً والبغضاءُ محبةً.
{إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} استثناءٌ من قولِهِ تعالى أسوةٌ حسنةٌ فإنَّ استغفارَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لأبيهِ الكافرِ وإنْ كانَ جائزاً عقلاً وشرعاً لوقوعِهِ قبل تبينِ أنَّهُ من أصحابِ الجحيمِ كما نطقَ به النصُّ لكنَّهُ ليسَ مما ينبغِي أن يُؤتسى بهِ أصلاً إذا المرادُ بهِ ما يجبُ الائتساءُ بهِ حتماً لورودِ الوعيدِ على الإعراضِ عنه بما سيأتي من قولِه تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فاستثناؤهُ من الأسوةِ إنما يفيدُ عدمَ وجوبِ استدعاءِ الإيمانِ والمغفرةِ للكافرِ المرجوِّ إيمانُهُ وذلكَ مما لا يرتابُ فيه عاقلٌ، وأما عدمُ جوازِهِ فلا دلالةَ للاستثناءِ عليهِ قطعاً هذا وأما تعليلُ عدمِ كونِ استغفارِهِ عليهِ الصلاةُ السلامُ لأبيهِ الكافرِ مما ينبغي أنْ يُؤتَسى بهِ بأنَّه كانَ قبل النَّهيِ أو لموعدةٍ وعَدَهَا إياهُ فبمعزلٍ منَ السَّداد بالكلية لابتنائه على تناول النَّهي لاستغفارِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ له وإنبائِهِ عن كونِهِ مُؤْتَسَى به لو لم يُنْهَ عَنْهُ وكِلاهما بيِّنُ البطلانِ لما أنَّ موردَ النَّهي هو الاستغفارُ للكافر بعد تبين أمرِهِ وقد عرفتَ أن استغفارَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لأبيهِ كان قبلَ ذلكَ قطعاً وأنَّ ما يُؤْتَسَى به ما يجبُ الائتساءُ بهِ لا ما يجوزُ فعلُهُ في الجملة، وتجويزُ أن يكونَ استغفارُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهُ بعدَ النَّهيِ كما هو المفهومُ من ظاهرِ قوله أو لموعدةٍ وعدَها إيَّاه مما لا مساغَ له وتوجيهُ الاستثناءِ إلى العدةِ بالاستغفارِ لا إلى نفسِ الاستغفارِ بقولِهِ واغفِر لأبي الآيةَ لأنها كانَتْ هي الحاملَةَ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامَ على الاستغفارِ، وتخصيصُ هذهِ العِدَة بالذكر دون ما وقع في سورة مريمَ من قوله تعالى: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} لورودها على طريق التوكيدِ القسمِي، وأما جعلُ الاستغفارِ دائراً عليها وترتيبُ التبرؤ على تبين الأمرِ فقد مَرَّ تحقيقُهُ في سورةِ التوبةِ وقولِهِ تعالى: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء} من تمامِ القولِ المُستثنى محلُّه النصبُ على أنَّهُ حالٌ من فاعل لأستغفرنَّ لكَ أي أستغفرُ لكَ وليسَ في طاقتِي إلا الاستغفارُ فموردُ الاستثناءِ نفسُ الاستغفارِ لا قيدُهُ الذي هُو في نفسه من خصال الخيرِ لكونِه إظهاراً للعجزِ وتفويضاً للأمرِ إلى الله تعالَى. وقولُهُ تعالَى: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير} إلخ من تمام ما نُقلَ عن إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ ومنْ معَهُ منَ الأسوةِ الحسنةِ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لقصرِ التوكلِ والإنابةِ والمصيرِ على الله تعالَى قالُوهُ بعدَ المُجَاهَرَةِ وقشرِ العَصَا التجاءً إلى الله تعالَى في جميعِ أمورِهِم لاسيما في مدافعةِ الكفرةِ وكفايةِ شرورِهِم كما ينطقُ به قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} بأنْ تسلطَهُم علَيْنَا فيفتنونَا بعذابٍ لا نطيقُهُ {واغفر لَنَا} ما فرطَ منا منَ الذنوبِ {رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز} الغَالِبُ الذي لاَ يَذِلُّ من التجأَ إليهِ ولاَ يخيبُ رجاءُ مَنْ توكَّلَ عليهِ {الحكيم} الذي لاَ يفعلُ إلا ما فيهِ حكمةٌ بالغةٌ وتكريرُ النداءِ للمبالغةِ في التضرعِ والجؤارِ. هَذا وأما جعلُ الآيتينِ تلقيناً للمؤمنينَ من جهتِهِ تعالَى وأَمراً لهم بأنْ يتوكلُوا عليهِ وينيبُوا إليهِ ويستعيذُوا بهِ من فتنةِ الكفرةِ ويستغفُرُوا مما فرطَ منهم تكملةً لما وصَّاهُم بهِ من قطعِ العلائقِ بينهُمْ وبينَ الكفرةِ فلا يساعدُهُ النظمُ الكريمُ.

.تفسير الآيات (6- 9):

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي في إبراهيمَ ومن مَعَهُ {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} تكريرٌ للمبالغةِ في الحثِّ على الائتساءِ به عليهِ الصلاةُ والسلامُ ولذلكَ صُدرَ بالقسمِ. وقولُهُ تعالى: {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر} بدلٌ من لكُم فائدَتُهُ الإيذانُ بأنَّ منْ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ لا يتركُ الاقتداءَ بهم وأنَّ تركَهُ منْ مخايل عدمِ الإيمانِ بهما كما ينبىءُ عنه قولُهُ تعالَى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فإنَّهُ مما يوعَدُ بأمثالِهِ الكفرةُ.
{عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم} أي منْ أقاربكم المشركينَ {مَّوَدَّةَ} بأنْ يوافقوكُم في الدين وعدهم الله تعالى بذلكَ لِما رأى منهم من التصلبِ في الدينِ والتشددِ لله في معاداةِ آبائِهِم وأبنائِهِم وسائِرِ أقربائِهِم ومقاطعَتِهِم إيَّاهُم بالكليةِ تطييباً لقلوبِهِم ولقد أنجزَ وعدَهُ الكريمَ حينَ أتاحَ لهم الفتحَ فأسلمَ قومُهُمْ فتمَّ بينَهُم من التحابِّ والتَّصافِي ما تمَّ {والله قَدِيرٌ} أي مبالغٌ في القُدرةِ فيقدرُ على تقليبِ القلوبِ وتغييرِ الأحوالِ وتسهيلِ أسبابِ المودَّةِ {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفرُ لمن أسلمَ منَ المشركينَ ويرحمُهُم وقيلَ غفورٌ لما فرطَ منكُم في موالاتِهِم مِن قبلُ ولِمَا بقِيَ في قلوبِكُم من ميلِ الرحمِ. {لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم} أي لا ينهاكُم عن البرِّ بهؤلاءِ فإنَّ قولَهُ تعالى: {أَن تَبَرُّوهُمْ} بدلٌ من الموصولِ {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} أي تُفضلوا إليهم بالقسطِ أي العدلِ {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي العادلينَ. رُويَ أنَّ قُتيلةَ بنتَ عبدِ العُزَّى قدمتْ مشركةً على بنتِهَا أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضيَ الله عنهُ بهدايَا فلم تقبلْها ولم تأذنْ لَها بالدخولِ فنزلتْ فأمرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ تُدخلَها وتقبلَ منْهَا وتُكرمَها وتُحسنَ إليها وقيلَ المرادُ بهم خزاعةُ وكانوا صالحُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلُوه ولا يعينوا عليهِ {إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم} وهم عتاةُ أهلِ مكةَ {وظاهروا على إخراجكم} وهم سائرُ أهلِها {أَن تَوَلَّوْهُمْ} بدلُ اشتمالٍ من الموصولِ أي إنما ينهاكُم عن أنْ تتولَّوهُم {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} لوضعهم الولايةَ في موضعِ العداوةِ أو هم الظالمونَ لأنفسِهِم بتعريضِها للعذابِ.

.تفسير الآيات (10- 11):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} بيانٌ لحكمِ من يُظهرُ الإيمانَ بعدَ بيانِ حُكم فريقي الكافرينِ {إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات} من بينِ الكفارِ {فامتحنوهن} فاختبروهُنَّ بما يغلبُ على ظَنِّكم موافقة قلوبهنَّ للسانِهنَّ في الإيمانِ. يُروى أنَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ للتي يمتحنُهَا بالله الذي لا إلَه إلا هُو ما خرجتِ من بغضِ زوجٍ بالله ما خرجتِ رغبةً عن أرضٍ إلى أرضٍ بالله ما خرجتِ التماسَ دُنيا بالله ما خرجتِ إلا حباً لله ورسولِه {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} لأنَّه المطلعُ على ما في قلوبهنَّ والجملةُ اعتراضٌ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} بعدَ الامتحانِ {مؤمنات} علماً يمكنكم تحصيلُه وتبلغُه طاقتُكم بعد اللَّتيا وَالتى من الاستدلال بالعلائمِ والدلائلِ والاستشهادِ بالأماراتِ والمخايلِ وهو الظنُّ الغالبُ، وتسميتُه علماً للإيذانِ بأنه جارٍ مجرى العلمِ في وجوبِ العملِ به {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي إلى أزواجِهِنَّ الكفرةِ لقولهِ تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فإنَّه تعليلٌ للنهي عن رجعهنَّ إليهمِ، والتكريرُ إما لتأكيدِ الحرمةِ أو لأنَّ الأولَ لبيانِ زوالِ النكاحِ الأولِ والثانيَ لبيانِ امتناعِ النِّكاحِ الجديدِ {وَأَتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} أي وأعطُوا أزواجهنَّ مثلَ ما دفعُوا إليهنَّ من المهورِ وذلكَ أنَّ صلحَ الحديبيةِ كانَ على أنَّ من جاءَنا منكُم رددناهُ فجاءتْ سُبيعةُ بنتُ الحارثِ الأسلمية مسلمة والنبي عليه الصلاة والسلام بالحديبية فأقبل زوجها مسافرٌ المخزوميُّ وقيلَ صيفيُّ بنُ الراهبِ فقال يا محمدُ ارددْ عليَّ امرأتِي فإنكَ قد شرطتَ أن تردَّ علينا من أتاكَ منا فنزلتْ لبيانِ أن الشرطَ إنما كانَ في الرجالِ دُونَ النساءِ فاستحلفَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحلفتْ فأَعطى زوجَها ما أنفقَ وتزوجَها عمرُ رضيَ الله عنهُ.
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} فإنَّ إسلامَهُنَّ حالَ بينهنَّ وبينَ أزواجهنَّ الكفارِ {إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} شُرطَ إيتاءُ المهرِ في نكاحهنَّ إيذاناً بأنَّ ما أُعطَى أزواجُهُنَّ لا يقومُ مقامَ المَهْرِ {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} جمعُ عصمةٍ وهي ما يُعتصم به من عقدٍ وسببٍ أيْ لا يكُنْ بينكُم وبينَ المشركاتِ عصمةٌ ولا عُلقةٌ زوجيةٌ قال ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا: من كانتْ له امرأةٌ كافرةٌ بمكةَ فلا يعتدنَّ بها من نسائِهِ لأنَّ اختلافَ الدارينِ قطعَ عصمتَها منْهُ وعنِ النخعيِّ رحمه الله هيَ المسلمةُ تلحقُ بدارِ الحربِ فتكفُرُ وعن مجاهدٍ أمرهُم بطلاقِ الباقياتِ مع الكفارِ ومفارقتِهِنَّ، وقرئ: {ولا تُمسّكوا} بالتشديد {ولا تَمسّكوا} بحذف إحدى التاءين من تتمسكوا {وَسْئَلُواْ مَّآ أَنفَقْتُمْ} من مهورِ نسائِكم اللاحقاتِ بالكُفَّارِ {وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} من مهورِ أزواجهنَّ المهاجراتِ {ذلكم} الذي ذُكِرَ {حُكْمُ الله} وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلامٌ مستأنفٌ أو حالٌ من حكمِ الله على حذفِ الضميرِ أي يحكمُه الله أو جعلَ الحكمَ حاكماً على المبالغةِ {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يشرعُ ما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ.
رُويَ أنَّه لما نزلتْ الآيةُ أدَّى المؤمنونَ ما أُمروا بهِ من مهورِ المهاجراتِ إلى أزواجهنَّ المشركينَ وأبى المشركونَ أنْ يؤدُوا شيئاً من مهورِ الكوافرِ إلى أزواجِهنَّ المسلمينَ، فنزلَ قوله تعالى: {وَإِن فَاتَكُمْ} أي سبقكُم وانفلتَ منكُم {شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار} أي أحدٌ من أزواجِكم وقد قرئ كذلكَ وإيقاعُ شيءٌ موقعَهُ للتحقيرِ والإشباعِ في التعميمِ أو شيءٌ من مهورِ أزواجِكم {فعاقبتم} أي فجاءتُ عقبتُكم أي نوبتُكم من أداءِ المهرِ شبه ما حكم به على المسلمينَ والكافرينَ من أداءِ مهورِ نساءِ أولئكَ تارةً وأداءِ أولئكَ مهورَ نساءِ هؤلاءِ أُخرى بأمرٍ يتعاقبونَ فيهِ كما يتعاقبُ في الركوبِ وغيرِه {فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} من مهرِ المهاجرةِ التي تزوجتُموها ولا تؤتوهُ زوجَها الكافرَ، وقيلَ معناهُ إنْ فاتكم فأصبتُم من الكفارِ عُقْبى هيَ الغنيمةُ فآتُوا بدلَ الفائتِ من الغنيمةِ. وقرئ: {فأعقبتُم} و{فعقَّبْتُم} بالتشديدِ و{فعقِبْتُم} بالتخفيفِ وفتحِ القافِ وبكسرِهَا. قيلَ جميعُ منْ لحقَ بالمشركينَ من نساءِ المؤمنينَ المهاجرينَ ستُّ نسوةٍ أمُّ الحكمِ بنتُ أبي سفيانَ وفاطمةُ بنتُ أميةٍ وبَرْوعُ بنتُ عُقْبةٍ وعبدةُ بنتُ عبدِ العُزَّى وهندُ بنتُ أبي جهلٍ وكلثومٌ بنتُ جرولٍ {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمانَ بهِ تعالى يقتضِي التَّقوى منهُ تعالَى.

.تفسير الآية رقم (12):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
{يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} أي مبايعاتٍ لكَ أيْ قاصداتٍ للمبايعةِ نزلتْ يومَ الفتحِ فإنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ شرعَ في بيعة النساءِ {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً} أي شيئاً من الأشياءِ أو شيئاً من الإشراكِ {وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} أُريدَ به وأدُ البناتِ وقرئ: {ولا يُقَتِّلْنَ} بالتشديدِ {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} كانتِ المرأةُ تلتقطُ المولودَ فتقولُ لزوجِها هُو ولدي منكَ كُنِيَ عنْهُ بالبهتانِ المُفترى بينَ يديها ورجلَيها لأنَّ بطنَها الذي تحملُهُ فيهِ بينَ يديها وَمَخرجُه بينَ رِجْلَيْها.
{وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي فيما تأمرهنَّ بهِ من معروفٍ وتنهاهنَّ عنْهُ من منكرٍ، والتقييدُ بالمعروفِ مع أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم لا يأمرُ إلا بهِ التنبيهُ على أنَّه لا يجوزُ طاعةُ مخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ وتخصيصُ الأمورِ المعدودةِ بالذكرِ في حَقِّهنَّ لكثرةِ وقوعِها فيمَا بينهنَّ معَ اختصاصِ بعضها بهنَّ {فَبَايِعْهُنَّ} أي على ما ذُكرَ وما لم يُذكرْ لوضوحِ أمرِهِ وظهورِ أصالتِهِ في المبايعةِ من الصلاةِ والزكاةِ وسائرِ أركانَ الدِّينِ وشعائرِ الإسلامِ، وتقييد مبايعتهنَّ بِما ذُكِرَ من مجيئهنَّ لحثهنَّ على المسارعةِ إليها مع كمالِ الرغبةِ فيهَا من غيرِ دعوةٍ لهنَّ إليها {واستغفر لَهُنَّ الله} زيادةٍ على ما في ضمنِ المبايعةِ فإنها عبارةٌ عن ضمانِ الثوابِ من قبلِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بمقابلةِ الوفاءِ بالأمورِ المذكورةِ من قبلهنَّ {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغٌ في المغفرةِ والرحمةِ فيغفرُ لهنَّ ويرحمهنَّ إذا وفَّينَ بما بايعنَ عليهِ. واختلفَ في كيفيةِ مبايعتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهن يومئذٍ فَرُوِيَ أنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ جلسَ على الصَّفا ومعه عمرُ رضيَ الله عنْهُ أسفلَ منْهُ فجعلَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يشترطُ عليهن البيعةَ وعمرُ يصافحهنَّ. ورُوِيَ أنَّه كلفَ امرأةٍ وقفتْ على الصَّفا فبايعتهنَّ. وقيلَ دَعا بقدحٍ من ماءٍ فغمسَ فيهِ يدَهُ ثم غمسنَ أيديهنَّ. ورُويَ أنه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بايعهنَّ وبين يديهِ وأيديهِنَّ ثوبٌ قطريٌّ، والأظهرُ الأشهرُ ما قالتْ عائشةُ رضيَ الله عنها والله ما أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على النساءِ قطُّ إلا بما أمرَ الله تعالَى وما مستْ كفُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كفَّ امرأةٍ قَط وكانَ يقولُ إذا أخذَ عليهنَّ قَدْ بايعتكنَّ، كلاماً، وكانَ المؤمناتُ إذَا هاجرنَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهنَّ بقولِ الله عزَّ وجلَّ: {يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات} إلى آخرِ الآيةِ فإذا أقررنَ بذلكَ من قولِهِنَّ قالَ لهنَّ انطلقنَ فقد بايعتكُنَّ.